قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}... [يونس: 5، 6].
إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهن. وجعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل، وقدر اختلاف الليل والنهار.. هذه الظواهر البارزة تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك.
إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون ربًا يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئًا من خلقه.. أليست قضية منطقية حية واقعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟!.
إن هذا الكون الهائل، سماواته وأرضه، شمسه وقمره، ليله ونهاره، وما في السماوات والأرض من خلق، ومن أمم ومن سنن، ومن نبات ومن طير ومن حيوان، كلها تجري على تلك السنن.. إن هذا الليل الطامي السادل الشامل، الساكن إلا من دبيب الرؤى والأشباح. هذا الفجر المتفتح في سدف الليل كابتسامة الوليد الراضي.
وهذه الحركة يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء، وهذا الظلال السارية يحسبها الرائي ساكنة وهي تدب في لطف، وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال، وهذا النبت النامي المتطلع أبدًا إلى النمو والحياة، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق، وهذا الأرحام التي تدفع والقبور التي تبلع، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله..
إن هذا الحشد من الصور والظلال، والأنماط والأشكال، والحركات والأحوال، والرواح والذهاب، والبلى والتجدد، والذبول والنماء، والميلاد والممات، والحركات الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تني ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار..
إن هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الإنسان للتأمل والتدبر والتأثر، حين يستيقظ القلب، ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه.. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات.
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}... [يونس: 3].. من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير.
وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحيانًا في الخير ويستخدمونه أحيانًا في الشر حسبما تسلم عقائدهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق!.
{أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ}... [يونس: 31] يهبها القدرة على أداء وظائفها أو يحرمها، ويصححها أو يمرضها، ويصرفها إلى العمل أو يلهيها، ويسمعها ويريها ما تحب أو تكره.. ذلك ما كانوا يدركونه يومئذ من ملك السمع والبصر، ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة.
وإن تركيب العين وأعصابها وكيفية إدراكها المرئيات، أو تركيب الأذن وأجزائها وطريقة إدراكها للذبذبات، لعالم وحده يدير الرؤوس، عندما يقاس هذا الجهاز أو ذاك إلى أدق الأجهزة التي يعدها الناس من معجزات العلم في العصر الحديث! وإن كان الناس يهولهم ويروعهم ويبهرهم جهاز يصنعه الإنسان، لا يقاس في شيء إلى صنع الله. بينما هم يمرون غافلين بالبدائع الإلهية في الكون وفي أنفسهم كأنهم لا يبصرون ولا يدركون!.
{وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ}... [يونس: 31].. وكانوا يعدون الساكن هو الميت، والنامي أو المتحرك هو الحي. فكان مدلول السؤال عندهم مشهودًا في خروج النبتة من الحبة، والحبة من النبتة، وخروج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ.. إلى آخر هذه المشاهدات. وهو عندهم عجيب. وهو في ذاته عجيب حتى بعد أن عرف أن الحبة والبيضة وأمثالهما ليست في الموتى بل في الأحياء؛ بما فيها من حياة كامنة واستعداد. فإن كمون الحياة بكل استعداداتها ووراثاتها وسماتها وشياتها لأعجب العجب الذي تصنعه قدرة الله..
وإن وقفة أمام الحبة والنواة، تخرج منهما النبتة والنخلة، أو أمام البيضة والبويضة منهما الفرخ والإنسان، لكافية لاستغراق حياة في التأمل والارتعاش!.
وإلا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود؟ وأين كانت تلك الجذور والساق والأوراق؟ وأين في النواة كان يكمن اللب واللحاء؟ والساق السامقة والعراجين والألياف؟ وأين كان يكمن الطعم والنكهة واللون والرائحة، والبلح والتمر، والرطب والبسر..؟.
وأين في البيضة كان الفرخ؟ وأين يكمن كان العظم واللحم، والزغب والريش، واللون والشيات، والرفرفة والأصوات..؟.
وأين في البويضة كان الكائن البشري العجيب؟ أين كانت تكمن ملامحه وسماته المنقولة عن وارثات موغلة في الماضي متشعبة المنابع والنواحي؟! أين كانت نبرات الصوت، ونظرات العين، ولفتات الجيد، واستعدادات الأعصاب، ووارثات الجنس والعائلة والوالدين؟! وأين كانت تكمن الصفات والسمات والشيات؟.
وهل يكفي أن نقول: إن هذا العالم المترامي الأطراف كان كامنًا في النبتة والنواة وفي البيضة والبويضة، لينقضي العجب العاجب الذي لا تفسير له ولا تأويل إلا قدرة الله وتدبير الله؟
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة.
وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها. وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار. وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة!.
{وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ}... [يونس: 31].. في هذا ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟! ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظم اللطيف العميق؟! ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟!ومن.. ومن؟!!
{فَسَيَقُولُونَ اللّهُ}... [يونس: 31]..فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
{فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُون}... [يونس: 31]. . أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه.
{فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ}... [يونس: 32].. والحق واحد لا يتعدد، ومن تجاوزه فقد وقع على الباطل، وقد ضل التقدير.
{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}... [يونس: 32].. وكيف توجهون بعيدًا عن الحق وهو واضح بين تراه العيون؟... [ظلال القرآن].
المصدر: موقع طريق القرآن